Details
هيّأ لي الله جلَّ وعلا أن أطَّلع في اليوم الأوَّل من شهر رمضان من عام خمسة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة على مقال كتبه كاتبه بنيَّة طيِّبة ونشرته له جريدة سيَّارة، تحدَّث فيه عن المهدي المنتظر، والمسيح الدجَّال، والدابَّة، ويأجوج ومأجوج. ونظرت فيما قرأت، فوجدت المقال يردِّد الشائع في عقائد عامَّة المسلمين المستمدّ ممَّا عرفوا بطريق السمع أو بالقراءة عن علامات الساعة. ولمَّا كنتُ - على ضآلة قدري بالنسبة لعلماء المسلمين - ممَّن مَلَكَهم القرآن العظيم، قرؤوه واجتهدوا أن يتدبّروه، فرأوا أنَّه يحثّ على إعمال العقل ويُعلي قدر العلم والعلماء، كان أن عرضتُ ما قرأت بالمقال المذكور من السائد في عقائد عامَّة المسلمين على بساط البحث العلمي، وأرخيت للعقل العنان في استنباط المجهول من المعلوم، لم أقيِّده بغير ما قيَّده به الشارع الحكيم، فخلصتُ إلى واقع عدم استقلال الموضوعات الأربعة التي عَرَضَ لها المقال المنشور بذواتها، وإلى واقع ارتباطها بموضوع نزول المسيح عليه السلام من السماء في زمان ما، الذي هو بدوره موضوع يرتبط - على وجه الحتم - بموضوع صلبه وموته، أو رفعه حيَّا إلى الله. وفي هذا ما يوجب عرض هذه الموضوعات على ذات بساط البحث الذي عرضت عليه الموضوعات الأربعة، فخلصت - بعد بحث هذه وتلك - إلى أنَّ أخطر سلاح يمكن لأعداء الدين توجيهه إلى الإيمان به هو هذا الذي يصنعه المؤمنون به وفي أيادهم يحملونه، فهو الأشدُّ فتكًا في صراعات الفِكر والعقائد.
وقد فعلتُ ما فعلت عالمًا بأنه قد يعرض لما قمت به وما قرَّرت به وما انتهيت إليه، مَنْ ينسب إليَّ أنَّني نهجتُ نهج هؤلاء الذين يشكِّكون في سنّة رسول الله وهي المصدر الثاني من مصادر الأحكام الشرعية. وهذا غير صحيح، فالمقرَّر عند الأصوليِّين أنَّ ما لا يسوغ الاجتهاد فيه هو ما فيه نصٌّ صحيح قطعي. والمعروف من التاريخ أنَّ أسوأ العهود التي مرَّت بالعلوم الدينية هو "عهد التقليد" الذي فترت فيه الهمم عن الاجتهاد، وهو العهد الذي ابتدأ من منتصف القرن الرابع الهجري. وأنَّ المشهور عن أبي حنيفة أنَّه قال - فيمن سبقه من الفقهاء - "هم رجال ونحن رجال".
وفي هذا البحث الذي اخترت له مسمَّى "أثر الأساطير والخرافات في عقائد المسلمين" اعتدادًا بالنتيجة التي خلصت إليها في المواضيع الأربعة الأصول، رأيت أن أبدأ ببيان واقع إعلاء القرآن العظيم قدر العلم والعلماء، وحثِّه على إعمال العقل وإطراح الخرافات في باب يمهِّد لموضوع البحث، يبيِّن ماهيَّة المصادر الشرعية للأحكام والمعارف العقائدية، وترتيب هذه المصادر باعتبارها أدلَّة عليها، مفصِّلًا أنواع السنَّة، التي تشكِّل القوليَّة منها أسانيد من خاضوا عباب الموضوعات محلِّ البحث وحججهم، ليكون تكوين الرأي فيما قال به هؤلاء الذين شكَّلوا عقائد عامَّة المسلمين المتعلقة بهذه الموضوعات مستندًا إلى دليل شرعيٍّ. ثم تناولت أسانيد باعثي هذه العقائد في فكر عامَّة المسلمين في بابٍ من أبواب البحث، أتْبعته بباب ثان يحمل عنوان: "النظر في أسانيد باعثي عقائد عامَّة المسلمين وحججهم"، فصَّلت فيه النصوص القرآنية الواردة في شأن هذه العقائد، ونصوص كتابي: العهد القديم والعهد الجديد الواردة في ذات الشأن وبيَّنت دلالاتها. ثم أوردت الباب الثالث تحت عنوان: "التقويم العلمي لعقائد عامَّة المسلمين" قسمته فصلين، تناولت في أولهما العقائد الأصول - وهي المتعلّقة بموضوعات: المهدي المنتظر، والمسيح الدجَّال، والدابَّة، ويأجوج ومأجوج. وتناولت في ثانيهما العقائد التبعية المرتبطة بالعقائد الأصول، وهي هذه المتعلقة بنزول المسيح في زمان آت، المرتبطة بحكم اللزوم العقلي بالمعتقدات المتعلِّقة بالقبض عليه ومحاكمته وصلبه وموته على الصليب، سواءٌ في هذا العقائد التي يؤمن بها المسلمون، والعقائد التي يؤمن بها المسيحيُّون. وفي كلِّ فصل من الفصلين بدأت ببيان مدى الاعتداد بأسانيد هذه المعتقدات لدى المؤمنين بها المستمدَّة من باعثيها لديهم، ثمَّ ثنَّيت بالنظر فيها وتقويمها موضوعيًّا، ليكون - من بعد - إبداء الرأي فيها، آملًا أن تعي هذا قلوبٌ واعية.